22- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبهما
كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من أعظم الواجبات الدينية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال اللّه تعالى «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولََئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ».
وقال النبي صلى الله عليه وآله: «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر فقيل له: ويكون ذلك يا رسول اللّه؟قال (ص): نعم.
فقال: «كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف فقيل له: يا رسول اللّه (ص) ويكون ذلك؟ فقال: نعم وشر من ذلك كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟».
وقد ورد عنهم -عليهم السلام- أن الأمر بالمعروف تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وتمنع المظالم، وتعمر الأرض وينتصف للمظلوم من الظالم، ولا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء.
(مسألة 1270): يجب الأمر بالمعروف الواجب، والنهي عن المنكر وجوبا كفائيا، إن قام به واحد سقط ع ن غيره، وإذا لم يقم به واحد أثم الجميع واستحقوا العقاب.
(مسألة 1271): إذا كان المعروف مستحبا كان الأمر به مستحبا،
--351--
فإذا أمر به كان مستحقا للثواب، وإن لم يأمر به لم يكن عليه اثم ولا عقاب.
يشترط في وجوب الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر أمور:
الأول: معرفة المعروف والمنكر ولو إجمالا، فلا يجبان على الجاهل بالمعروف والمنكر.
الثاني: احتمال ائتمار المأمور بالمعروف بالأمر، وانتهاء المنهي عن المنكر بالنهي، فإذا لم يحتمل ذلك، وعلم أن الشخص الفاعل لا يبالي بالأمر أو النهي، ولا يكترث بهما لا يجب عليه شيء.
الثالث: أن يكون الفاعل مصرا على ترك المعروف، وارتكاب المنكر فإذا كانت امارة على الإقلاع، وترك الإصرار لم يجب شيء، بل لا يبعد عدم الوجوب بمجرد احتمال ذلك، فمن ترك واجبا، أو فعل حراما ولم يعلم أنه مصر على ترك الواجب، أو فعل الحرام ثانيا، أو أنه منصرف عن ذلك أو نادم عليه لم يجب عليه شيء، هذا بالنسبة إلى من ترك المعروف، أو ارتكب المنكر خارجا.
وأما من يريد ترك المعروف، أو ارتكاب المنكر فيجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإن لم يكن قاصدا إلا المخالفة مرة واحدة.
الرابع: أن يكون المعروف والمنكر منجزا في حق الفاعل، فإن كان معذورا في فعله المنكر، أو تركه المعروف، لاعتقاد أن ما فعله مباح وليس بحرام، أو أن ما تركه ليس بواجب، وكان معذورا في ذلك للاشتباه في الموضوع، أو الحكم اجتهادا، أو تقليدا لم يجب شيء.
الخامس: أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر في النفس، أو في العرض، أو في المال، على الآمر، أو على غيره من المسلمين، فإذا لزم الضرر عليه، أو على غيره من المسلمين لم يجب شيء
--352--
و الظاهر أنه لا فرق بين العلم بلزوم الضرر والظن به والاحتمال المعتد به عند العقلاء الموجب لصدق الخوف، هذا فيما إذا لم يحرز تأثير الأمر أو النهي وأما إذا أحرز ذلك فلا بد من رعاية الأهمية، فقد يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم بترتب الضرر أيضا، فضلا عن الظن به أو احتماله.
(مسألة 1272): لا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصنف من الناس دون صنف، بل يجب عند اجتماع الشرائط المذكورة على العلماء وغيرهم، والعدول والفساق، والسلطان والرعية، والأغنياء والفقراء، وقد تقدم أنه إن قام به واحد سقط الوجوب عن غيره وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، واستحقوا العقاب.
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب: الأولى: الإنكار بالقلب، بمعنى إظهار كراهة المنكر، أو ترك المعروف، إما بإظهار الانزعاج من الفاعل، أو الاعراض والصد عنه، أو ترك الكلام معه، أو نحو ذلك من فعل أو ترك يدل على كراهة ما وقع منه.
الثانية: الإنكار باللسان والقول، بأن يعظه، وينصحه، ويذكر له ما أعد اللّه سبحانه للعاصين من العقاب الأليم والعذاب في الجحيم، أو يذكر له ما أعده اللّه تعالى للمطيعين من الثواب الجسيم والفور في جنات النعيم.
الثالثة: الإنكار باليد بالضرب المؤلم الرادع عن المعصية، ولكل واحدة من هذه المراتب مراتب أخف وأشد، والمشهور الترتب بين هذه المراتب، فإن كان إظهار الإنكار القلبي كافيا في الزجر اقتصر عليه، وإلا أنكر باللسان، فإن لم يكف ذلك أنكره بيده، ولكن الظاهر أن القسمين الأولين في مرتبة واحدة فيختار الآمر أو الناهي ما يحتمل التأثير منهما، وقد
--353--
يلزمه الجمع بينهما.
وأما القسم الثالث فهو مترتب على عدم تأثير الأولين، والأحوط في هذا القسم الترتيب بين مراتبه فلا ينتقل إلى الأشد، إلا إذا لم يكف الأخف.
(مسألة 1273): إذا لم تكف المراتب المذكورة في ردع الفاعل ففي جواز الانتقال إلى الجرح والقتل وجهان، بل قولان أقواهما العدم، وكذا إذا توقف على كسر عضو من يد أو رجل أو غيرهما، أو أعابه عضو كشلل أو اعوجاج أو نحوهما، فإن الأقوى عدم جواز ذلك، وإذا أدى الضرب إلى ذلك -خطأ أو عمدا- فالأقوى ضمان الآمر والناهي لذلك، فتجري عليه أحكام الجناية العمدية، إن كان عمدا، والخطأية إن كان خطأ.
نعم يجوز للإمام ونائبه ذلك إذا كان يترتب على معصية الفاعل مفسدة أهم من جرحه أو قتله، وحينئذ لا ضمان عليه.
(مسألة 1274): يتأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق المكلف بالنسبة إلى أهله، فيجب عليه إذا رأى منه التهاون في الواجبات، كالصلاة وأجزائها وشرائطها، بأن لا يأتوا بها على وجهها، لعدم صحة القراءة والأذكار الواجبة، أو لا يتوضأوا وضوءا صحيحا أو لا يطهروا أبدانهم ولباسهم من النجاسة على الوجه الصحيح أمرهم بالمعروف على الترتيب المتقدم، حتى يأتوا بها على وجهها، وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذا إذا رأى منهم التهاون في المحرمات كالغيبة والنميمة، والعدوان من بعضهم على بعض، أو على غيرهم، أو غير ذلك من المحرمات، فإنه يجب أن ينهاهم عن المنكر حتى ينتهوا عن المعصية.
(مسألة 1275): إذا صدرت المعصية من شخص من باب الاتفاق، وعلم أنه غير مصر عليها لكنه لم يتب منها وجب أمره بالتوبة، فإنها من الواجب، وتركها كبيرة موبقة، هذا مع التفات الفاعل إليها، أما مع الغفلة ففي وجوب أمره بها إشكال، والأحوط -استحبابا- ذلك.
--354--
فائدة
قال بعض الأكابر قدس سره: إن من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها، خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبة ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهة، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة، وينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر خصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة فإن لكل مقام مقالا، ولكل داء دواء، وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة، وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ختام وفيه مطلبان
المطلب الأول: في ذكر أمور هي من المعروف:
منها: الاعتصام باللّه تعالى قال اللّه تعالى: «وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللََّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلىََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «أوحى اللّه عز وجل إلى داود ما اعتصم بي عبد من عبادي، دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن».
ومنها: التوكل على اللّه سبحانه، الرؤوف الرحيم بخلقه العالم بمصالحه والقادر على قضاء حوائجهم.
وإذا لم يتوكل عليه تعالى فعلى من يتوكل أعلى نفسه، أم على غيره مع عجزه وجهله؟قال اللّه تعالى «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» وقال أبو عبد اللّه (ع): «الغنى والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع من التوكل أوطنا».
ومنها: حسن الظن باللّه تعالى، قال أمير المؤمنين عليه السلام فيما
--355--
قال: «و الذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن باللّه إلا كان اللّه عند ظن عبده المؤمن، لأن اللّه كريم بيده الخير يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن، ثم يخلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا باللّه الظن وارغبوا إليه».
ومنها: الصبر عند البلاء، والصبر عن محارم اللّهقال اللّه تعالى: «إِنَّمََا يُوَفَّى اَلصََّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسََابٍ» وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في حديث: «فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا»، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يعدم الصبر الظفر وإن طال به الزمان»، وقال (ع): «الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم اللّه تعالى عليك».
ومنها: العفة، قال أبو جعفر (ع): «ما عبادة أفضل عند اللّه من عفة بطن وفرج»، وقال أبو عبد اللّه (ع): «إنما شيعة جعفر (ع) من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر» عليه السلام.
ومنها: الحلم، قال رسول اللّه (ص): «ما أعز اللّه بجهل قط.
ولا أذل بحلم قط»، وقال أمير المؤمنين (ع): «أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل» وقال الرضا (ع): «لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما».
ومنها: التواضع، قال رسول اللّه (ص): «من تواضع للّه رفعه اللّه ومن تكبر خفضه اللّه، ومن اقتصد في معيشته رزقه اللّه ومن بذر حرمه اللّه، ومن أكثر ذكر الموت أحبه اللّه تعالى».
ومنها: انصاف الناس، ولو من النفسقال رسول اللّه صلى اللّه عليه
--356--
و آله: «سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في اللّه تعالى على كل حال».
ومنها: اشتغال الإنسان بعيبه عن عيوب الناس، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «طوبى لمن شغله خوف اللّه عز وجل عن خوف الناس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب المؤمنين» وقال صلى اللّه عليه وآله: «إن أسرع الخير ثوابا البر، وإن أسرع الشر عقابا البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه، وأن يعير الناس بما لا يستطيع تركه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه».
ومنها: إصلاح النفس عند ميلها إلى الشر، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «من أصلح سريرته أصلح اللّه تعالى علانيته، ومن عمل لدينه كفاه اللّه دنياه، ومن أحسن فيما بينه وبين اللّه أصلح اللّه ما بينه وبين الناس».
ومنها: الزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «من زهد في الدنيا أثبت اللّه الحكمة في قلبه، وانطلق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه منها سالما إلى دار السلام»، وقال رجل قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: «إني لا ألقاك إلا في السنين فأوصني بشيء حتى آخذ به؟فقال (ع) أوصيك بتقوى اللّه، والورع والاجتهاد، وإياك أن تطمع إلى من فوقك، وكفى بما قال اللّه عز وجل لرسول اللّه (ص)«وَ لاََ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَيََاةِ اَلدُّنْيََا» وقال تعالى «فَلاََ تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَ لاََ أَوْلاََدُهُمْ» فإن خفت ذلك فاذكر عيش رسول اللّه (ص) فإنما كان قوته من الشعير، وحلواه من التمر ووقوده من السعف إذا وجده وإذا أصبت بمصيبة في نفسك أو مالك أو ولدك فاذكر مصابك برسول اللّه (ص) فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط».
--357--
المطلب الثاني: في ذكر بعض الأمور التي هي من المنكر:
منها: الغضب.
قال رسول اللّه (ص): «الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل» وقال أبو عبد اللّه: «الغضب مفتاح كل شر» وقال أبو جعفر عليه السلام: «إن الرجل ليغضب فيما يرضى أبدا حتى يدخل النار، فأيما رجل غضب على قومه وهو قائم فليجلس من فوره ذلك، فإنه سيذهب عنه رجس الشيطان، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه، فإن الرحم إذا مست سكنت».
ومنها: الحسد، قال أبو جعفر وأبو عبد اللّه (ع): «إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذات يوم لأصحابه: «إنه قد دب إليكم داء الأمم من قبلكم، وهو الحسد ليس بحالق الشعر، ولكنه حالق الدين، وينجي فيه أن يكف الإنسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن».
ومنها الظلم، قال أبو عبد اللّه (ع): «من ظلم مظلمة أخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده»، وقال (ع): «ما ظفر بخير من ظفر بالظلم، أما أن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم».
ومنها: كون الإنسان ممن يتقى شره، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «شر الناس عند اللّه يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم»، وقال أبو عبد اللّه (ع): «و من خاف الناس لسانه فهو في النار».
وقال عليه السلام: «إن أبغض خلق اللّه عبد اتقى الناس لسانه» ولنكتف بهذا المقدار.
والحمد للّه أولا وآخرا، وهو حسبنا ونعم الوكيل